الأحد، 2 مارس 2008

ليلة بيضاء بـ (مستشفى) آيل للسقوط

\ليلة بيضاء بـ (مستشفى) آيل للسقوط
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف من ليلة الأحد الماضي ، شوارع القنيطرة خالية تماما إلا من بعض الكلاب الضالة و عدد قليل من المتسكعين ، لا أثر لأي سيارات أمن قد تمنحك الشعور بالإطمئنان ، سيارات الأجرة الصغيرة أيضاً إختفت ، وحدي كنت أهرول على طول الشارع الاداري المؤدي الى الحي الجامعي هرولة هاجر ما بين جبلي "الصفا والمروة".. الفرق بيننا أنها كانت تهرول بحثا عن الماء وهرولتي كانت بحثا عن سيارة أجرة تقلني إلى المستشفى الإقليمي بالمدينة، على إثر إختناق صدري مفاجئ كان قد أصابني ليلتها وأُغلقت معه الشُعب التنفسية لرئتي إغلاقا محكما كحال المنافد و السُبل عند مرور الموكب الملكي ، مرت أكثر من عشرون دقيقة وانا ألقي ببصري هنا وهناك كزرقاء اليمامة ، مدة كدت افقد معها الامل في ايجاد طاكسي و الأمل في الحياة ايضا ، لكن فجأة تشتعل الإشارة الضوئية الحمراء مرغمة سائقي احدى الطاكسيات على التوقف ، رغم انه كان يقل شخصين آخرين وكان يبدو أن وجهتهم غير وجهتي، فقد هرولت نحوه وطرقت زجاج السيارة المغلق كأني متسول اعتاد التربص بالسيارات عند ممر الراجلين، رجوت السائق وتوسلته ثم اتفقنا على ان اركب معه الى حين ايصال الزبونين ثم يعود بي الى حيث وجهتي ، قبلت العرض مضطرا ما دام هو الحل الوحيد ، مرت علي دقائق تلك الرحلة القصيرة كساعات طوال بعدها عاد بي إلى المستشفى الإقليمي، مركز صحي هو الوحيد بمنطقة الغرب اشراردة بني احسن ، يقع داخل غابة مخيفة و مرعبة لطالما سمعنا عن جرائم قتل بشعة كانت تقع بها ،طبعا قبل أن اكتشف بتلك الليلة البيضاء أن جرائم قتل أخرى كانت تقع كل يوم على اسرة داك المستشفى نفسه اما نتيجة الاهمال او سوء الرعاية في احسن الاحوال ; وصلنا الى بوابته بعد رحلة دامت قرابة العشر دقائق وقبل أن نلج إلى الداخل ، سيدة في الثلاثينيات يبدو عليها التعب تلقي بنفسها امامنا ، تتوقف سيارة الاجرة من جديد ، استجمعت السيدة قواها الخائرة ثم اتجهت نحو باب السيارة الخلفي وصعدت وهي تئن وتبكي بكاءاً مع حشرجة متواصلة كحشرجة الإحتضار ، سائق الطاكسي سائلا اياها : مالكي ياك لا باس ؟..ردت بكلمات مختنقة : ولاد لحرام من السبعة ديال لعشية وانا ملاوحة حتى واحد ما داها في..اللي عندو لفلوس كيدوز وانا حيث ما عندي حد من غير الله بقيت ملاوحة حتال دابا عاد شافو في.
تأسفنا لحالها ووعدها السائق بأن يعود بها الى بيتها ما ان يوصلني الى مدخل المركز الصحي ، و كدلك كان فعلا، نزلت من السيارة شاكرا السائق ومتمنيا الشفاء لتلك السيدة المسكينة ، عرجت الى الاستقبالات وكان المكان مكتظا بالمرضى ، تقدمت نحو احد المسؤولين قدمت له بطاقتي الوطنية ، وبعد أن سجل المعلومات لديه بإحدى الدفاتر أعطاني ورقة صغيرة مكتوب عليها رقم 1689 ، وأخيرا ولجت الى داخل المركز وصرت اتجول بين اقسامه المختلفة بحثا عن طبيب أو ممرض يقدم لي المساعدة ولم أكن طامعا طبعاً بغير أنبوب " أوكسجين " يعينني في التغلب على ضيق تنفسي ، كل الغرف مكتوب عليها قاعة الفحص والعلاج ولكن ولا واحدة منها صالحة لا للفحص ولا العلاج بل اغلبها وجدتها اما مغلقة او خالية الا من مكتب خالي ايضا.
جلست بإحدى الكراسي مستسلما ، وضعت يداي على صدري ثم سعلت سعالا جارحا في محاولة يائسة مني للتخفيف من الألم ، وقفت بعدها ثانية واتجهت نحو احدى الممرات فكان أن صادفت احدى الممرضات فاستفسرتها مُظهرا لها تلك الورقة التي تحوي الرقم 1689 : عافاك أ ختي عندي كريز فين نقدر نلقى شي طبيب اللي يشوفني ؟..فعلا دلتني على احدى الغرف التي دهبت اليها مسرعا وما إن وصلت دفعت بابها دون طرقه ثم دخلت فوجدت طبيبة تجلس على مكتبها يتدلى من على عنقها مجس للنبض يبدو انه كل ما توفر لها من أجهزة بداك المكتب ، سألتني بعض الاسئلة ثم وضعت المجس على ظهري ، قبل أن تناوليني هي الأخرى ورقة تحمل طابعها وقالت لي سير يديرو ليك الاوكسجين ،انتقلت حيث كان نعتها لي فوجدت ممرضتين وطبيب بغرفة بها اربعة أسرة من النوع الرديىء جدا ، كل شيء بداك المستشفى كان يبدو مهترئا ، نظرات المرضى ، جُدرانه ، وجوه الاطباء والممرضين ، الأجهزة على قلتها ، وحين إستلقيت على "ا لبَـايـاص" شاهدت سقفا ندياً ، كان يبدو عليه آثار مياه ربما نفدت عبر السطح متجاوزة الخرسانة و الطلاء لتشكل بالنهاية أشبه ما يكون بخارطة بؤس الى جانب تشققات أخرى كانت هي كل ما يؤنس عيون المرضى المستلقين على بياصاتهم الضيقة.
ظل الاوكسجين يتسرب عبر مسالكي التنفسية كسفينة تشق العباب غير آبهة بالأنواء ، وكنت كلما تحسست الانبوب بيدي إكتشفت تسرباً آخر بجوانبه ، بقيت على دلك الحال قرابة الساعة الا ربع قبل ان تأتي الممرضة وتحقنني بإحدى الحقن ثم نزعت الانبوب عني وهي تقول : صافي نوض باراكا عليك ..جاء ردي اسرع من البرق متخدا شكل احتجاج..آش من باراكا..راني باقي مزير هادشي عندكم راه ما دار لي والو..ردت مرة أخرى إيوا بلاتي نجيب ليك واحد آخر..كان الأنبوب الدي احضرته يشبه داك الدي يضعونه للمرضى على افواههم بغرف العمليات وكان يصدر أزيزاً أزعج المريض الدي كان بجانبي والدي لم يكن غير رجل مسن قادم من مدينة مشرع بلقصيري ، يعاني من شلل نصفي ظل ابناؤه المرافقين له يحاولون طيلة الوقت تغيير وضعية أنبوب المصل المتبث على احدى شرايين يده ، قبل أن أدير وجهي للجهة الاخرى بعدما سمعت احدهم يخاطب الرجل المسن : دور الحاج هادي واحد الكوشة " حَفاظة " غادي نديروها ليك.تأسفت لحاله الدي كان يدعو الى الشفقة وهو مُلقى به على " باياص" يكاد لا يسع قامته وهو الرجل الفارع الطول ثم حمدت الله أن عافاني مما إبتلى به غيري وقمت من مكاني متفحصا تلك الآلة العجيبة التي ازعجتني وازعجت باقي المرضى معي ، وقعت عيني على إشارتيْ أون - أوف..وبدون تردد ضغطت على أوف..وتنهدت تنهيدة قصيرة أعقبتها بعبارة أوووف و آخ ايضا كون أن مثل هده البنائية المهترئة يدعونها مستشفى
ترجلت من باياصي اللعين وتوجهت نحو الممرضة صافي أ ختي الله يجعل البركة ..واش ما كاينش شي دوا تعطيه لي ؟..ردت : ما كاين والو والله ..كانت عندنا فُونطولين و سَالات حتى هي..سير عن الطبيبة تعطيك شي طريطمو تشريها من برا..
قصدت الطبيبة مرة أخرى وقضيت نصف ساعة اسأل عنها ..لكن لا اثر لها..إختفت ..كأن الارض انشقت وابتلعتها..لم أكن الوحيد الدي يبحث عنها بل كان هناك آخرون غيري..وظلت سيدة تتجول بين دهاليز المستعجلات بقوى خائرة كأنها شبح قام للتو من قبره..كانت تتوسل كل المارين بمحاداتها..رجاءا أين هي.. ؟ ثم تخور قواها مرة اخرى قبل أن تنطق بكلمة طبيبـ..

رفيق الدرب

ليست هناك تعليقات: